-A +A
حسين الحجاجي ـ جدة
قانعون إلى حد الفقر، وأغنياء بأرواحهم رغم العوز..

من الصغر تعودوا كسب اليد وحصاد التعب، بسطاء لا يشترطون ثمنا لمجهودهم، ولا يحدثونك أبدا عما يجب أن تدفع، يتقبلون أي قيمة، وغالبا ما يلتزمون الصمت إلا من رد تحية لعابر يعرفهم، لكنهم في الغالب منهمكين إلى حد العزلة.

السوق بكل ضجيجه لا يلفت انتباههم، والأحاديث الجانبية ومفاوضات السعر كل هذا بلا معني في انهماكهم.

أولئك الذين يتخذون جانب السوق من أجل مهمة لا بد منها، مهمة تنظيف ما تحمله يدك من أسماك، تراهم حول السوق أو على الأطراف أو حيثما توقفت قوارب الصيد.

هناك في جازان مثلما هم في ينبع ورابغ، لكنهم يختلفون في مهارة العمل، منهم من كان صيادا، ومنهم من لا علاقة له بالبحر.

تقزز الزوجة يخدمنا

قبل (البنقلة) في جدة كانوا هم سادة المكان، كما يقول عبدالحميد صالح العريشي (84 عاما) كنا نتجمع منذ الصباح الباكر حول قوارب الصيد حيث يقصدنا كل من يشتري أي نوع من السمك، فنحن ننظف السمك، وكذلك غسله وتجهيزه للطهي.

المهنة تستدعي المهارة، لدرجة أنني كنت أنظف (الشكة) التي تزن ثمانية كيلو في أقل من نصف ساعة، نزيل ما في جوف السمك من أوساخ، وأحيانا نتولى مهمة السلخ أيضا.

ويضيف العريشي: بعدما جاءت الشركة وصارت هناك بنقلة، لم يعد لنا مكان فانسحبنا من السوق وتركت العمل، وخصوصا مع تقدم السن لكني كنت أزاول العمل في جازان إلى أن تركته نهائيا، في السابق كانت الزوجة هي من تتولى تلك المهمة، لكن مع تطور الحياة صارت الزوجة (تتقزز) من تنظيف الأسماك، ومن هنا كان لنا سوق وتجارة.

خرافة اللؤلؤ والمرجان

إبراهيم علي صريم (80 عاما) الذي كان يتوقى حرارة الشمس في تلك الظهيرة بقطعة كرتون وضعها على رأسه، قال:

ليس من المعتاد أن أبقى إلى هذا الوقت، لكن أحيانا يتأخر الصيادون في المجيء وتتأخر عملية البيع والشراء في السوق، ولهذا أواصل المكوث، ولا تصل الساعة إلى الحادية عشرة، إلا ويكون السوق خاليا، وأنا في بيتي.

مضيفاً: عملنا لا يخرج عن تنظيف السمك تنظيفا كاملا والسعر يحدده صاحبه فلا مساومة على السعر، أقول له «أعطني ما تراه مناسبا»، لا أشترط، تعلمت هذا من والدي الذي رباني على القناعة بالقليل، فربما هذا القليل غطى لك من الاحتياجات الشيء الكثير ببركة الله تعالى، ولهذا لا يهمني كثيرا إذا أعطى لي بلا نفس أو غصبا، ما يقدم لي دائما فيه الخير الكثير، وبالرغم من العوز والاحتياج، إلا أنني لا أشعر بذلك طالما أنا في كامل الصحة والعافية، أما عن ما يقال أن كل من ينظف السمك لا بد أن له حكاية مع (حبة لؤلؤ) فهذا غير صحيح، أمضيت من عمري الكثير في تنظيف السمك وأسماك القرش أو القواقع، ولا أذكر أني وجدت شيئا ثمينا، كل ما أجده تلك الأوساخ في جوف السمكة، وما عدا ذلك خرافات وأكاذيب.

صيادون و زبائن

محمد محمد ناصر (45 عاما) يأتي من صلاة الفجر إلى هذا السوق حيث يتجهز لممارسة عمله، متخذا من هذا الموقع مكانا دائما، ويقول:

أغلب الناس تأتي لسوق السمك مع الفجر حين أبدأ في استقبال الزبائن الذين يشترون السمك ويحبون أن يحملوه نظيفا لمنازلهم وجاهزا للطبخ أو للقلي في (الميفا أو الصاج)، في الصباح الباكر أكون بالقرب من شاطئ البحر حيث ترسو قوارب الصيد، فهناك أناس يحرصون على شراء السمك قبلما يدخل السوق يعني من الصياد مباشرة، لهذا أبقى هناك إلى حدود الساعة السابعة صباحا، بعدها أحمل معداتي إلى داخل السوق حيث يأتي أناس متأخرون جدا لشراء السمك ويحتاجون لتنظيفه فيجدوني في هذا المكان،

ويضيف ناصر: لست من قدامى العاملين في هذا المكان، وإنما كنت أعمل في مطعم في بداية الأمر، حيث كنت المسؤول عن تنظيف السمك، ثم تركت العمل هناك بعدما اكتسبت خبرة جيدة.

كرهت البحر لغدره

ويروي علي هاشم حكمي (87 عاما) أنه لم يكن سوى صياد ورث المهنة أبا عن جد، إلا أن حادثة حصلت له، غيرت مسار حياته تماما مثلما قال:

أنا صياد وأبن صياد كنت أرافق الوالد إلى البحر، نظل هناك لثلاثة أو أربعة أيام بل أكثر من ذلك، وبعد وفاة الوالد توليت المهمة حيث كنت الأكبر بين إخوتي الأربعة، ولهذا انشغلت عن كثير من أمور الحياة من أجلهم، لم أتزوج حتى الآن من أجل ألا أنشغل عنهم، وظللت أتولى رعايتهم وتربيتهم حتى تم توظيفهم جميعا، بل زوجتهم وساهمت إلى حد كبير في توفير الحياة الجيدة لهم، وبعد أن أبعدتهم ظروف الحياة ومشاغلها تحولت من عملي كصياد إلى تنظيف السمك في السوق، وهذه المهمة كما تعلم جزء من عمل الصياد اليومي، ولهذا لم أكن بحاجة إلى خبرة فيه، وهناك حادثة حصلت لي في عمق البحر هي السبب الذي جعلني أترك صيد السمك إلى تنظيفه، بعد أن قضيت ورفيق لي سبعة أيام في عمق البحر، تمكنا خلالها من جمع كمية كبيرة من السمك قررنا العودة في مساء ذات ليلة مقمرة، إلا أن عاصفة قوية سحبت أمواجها قارب الصيد إلى إحدى الجزر وهشمته وألقت بنا في عمق البحر، حيث تمكنا من السباحة حتى شاطئ تلك الجزيرة الذي لم تكن بعيدة عنا، إلا أننا أحسسنا بالموت وأذكر أنني تشهدت وأيقنت بهلاكنا غرقا، وخصوصا عندما شعرت بالتعب وإنهاك جسمي، وصلت إلى شاطئ الجزيرة ووجدت رفيقي ملقى على أرض الشاطئ وهو في حالة إنهاك تام وبقينا على هذا الحال، إلى أن مر بنا في مساء اليوم التالي قارب صيد عائد وحملنا معه بعدما قدم لنا المساعدة، منذ ذلك اليوم لم أذهب إلى البحر أو أفكر في الصيد مجددا، هذه الحادثة أجبرتني على ترك البحر والتحول إلى عامل لتنظيف السمك.

طعنة البحر

ويعلل صالح حميد مبرد (66 عاما) تحوله المفاجئ إلى منظف أسماك بقوله: مثلي مثل العم (علي) كنت وإياه زملاء بحر وقارب، لكني اكتفيت الآن بالعمل في تنظيف السمك في السوق أو بجوار البحر، وما كان ذلك إلا بسبب أنني مثل غيري من صيادي البحر نغيب لمدد طويلة ربما تستمر إلى (7 أيام) متتالية وأحيانا نأتي إلى الشاطئ فقط لكي نبيع السمك، ثم نتزود بالوقود لكي نعود مرة أخرى للبحر دون أن نعرج على بيوتنا أو نتفقدها، وهذه كانت غلطة كبيرة حيث دفعت ثمنها في صحة ابني الرضيع، فقد تعرض قبل (12 عاما) إلى ارتفاع في درجة حرارة جسمه وكان ذلك بعد منتصف الليل، ولم تحسن زوجتي وقتها التصرف بطرق أبواب أحد جيراني، وإنما أصابها ذهول وارتباك لم تعرف معه كيفية التصرف الصحيح، واكتفت بإعطاء طفلي بعض المسكنات المتوفرة عندها، حتى كان الصباح حيث تشنج الطفل وأصابه الشلل، نتيجة لأنها لم تتمكن من نقله إلى المستشفى ولأنني كنت في عمق البحر بعيدا عنها، وعندما عدت وشاهدت ابني بتلك الحالة أصابني كره شديد للبحر ولم أنزل إليه مرة أخرى، وقررت العمل بالجوار حيث أكون كل مساء داخل بيتي.